تثير في الدنمارك حركة احتجاجية ناشئة تحت اسم “رجال بالأسود” (Men In Black) قلق المستويين الأمني والسياسي. البعض يشبهها بالحركات العنفية التي تشهدها بعض الدول الأوروبية، كما في ألمانيا وإيطاليا، ويصنفها آخرون على أنها تضم “نواة صلبة من اليمين المتطرف”، مثل حركة “بيغيدا” التي تأسست في ألمانيا، بحجة “وقف أسلمة الدنمارك”.
السياسي المحافظ في البرلمان الدنماركي ، ناصر خضر، لم يتردد مساء أمس في تصنيف “رجال بالأسود” على أنهم “فاشيون”.
هذه الحركة، التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، سرعان ما أثارت فزع الأحزاب السياسية من يسار ويسار الوسط ويمين الوسط، مع شبه صمت من “حزب الشعب الدنماركي”، صاحب التوجهات اليمنية المتشددة.
من ناحيتها، تبدو الاستخبارات الدنماركية، وشرطة العاصمة كوبنهاغن، أكثر قلقا من هذه الحركة مقارنة بغيرها من الحركات الاحتجاجية، السياسية والاجتماعية، وخصوصا بعيد اقتحام الكونغرس الأميركي من قبل أنصار دونالد ترامب في السادس من الشهر الحالي.
وبعد 3 أيام من حادثة واشنطن، أي في 9 من الشهر الحالي، لفت عنف متظاهري كوبنهاغن المستوى الأمني، مع ملاحظة تزايد أعداد متابعي صفحتهم الرسمية على فيسبوك التي حققت أكثر من 15 ألف متابع خلال فترة قصيرة، وتجذب الشباب بعرض نفسها برومانسية كحركة مقاومة، بينما تعتقد الاستخبارات أن مجموعات أخرى من الحركة تعمل تحت الأرض بشكل سري.في تلك الاحتجاجات، تعالت أصوات مؤيدة بين المتظاهرين لاقتحام البرلمان الدنماركي، مستلهمين ما جرى في الكونغرس الأميركي.
الشرطة الدنماركية والاستخبارات تصدت بقوة ومنعت مئات منهم من الاقتراب من المؤسسة التشريعية.
مساء أمس السبت، خطت حركة “رجال بالأسود” خطوة صدمت كثيرين في البلد، “فمستوى العنف ضد الشرطة والسياسيين بات ملحوظا أكثر من آخر تظاهرة” ، بحسب بيانات شرطة كوبنهاغن.
وإلى جانب مهاجمة الشرطة بمفرقعات وزجاجات فارغة، يبرز غضب الحركة هذه المرة على رئيسة وزراء يسار الوسط، ميتا فريدركسن، مشبهين إياها بزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، معلقين مجسما مشنوقا لها وأشعلوا النار فيه.
هؤلاء يدعون أنهم “مقاتلون من أجل الحرية” و”مواجهون للديكتاتورية وتسلط السياسيين”، متخذين من معارضة الإجراءات الحكومية لمواجهة جائحة كورونا سببا للتعبير عن أنهم “محاربون نيابة عن الشعب لاستعادة الحرية للدنمارك”.
على مدى الأسابيع الماضية، كان المختصون يحذرون من تنامي الحركة “التي تستند إلى نظرية المؤامرة”، وأن الأمن ينفذ أجندة “حكومة خفية” تريد سلب الشعب حريته.
ويبدو أن الانتشار الأمني الكبير لمواجهة الاحتجاجات قبل أسبوعين، ومساء أمس السبت، على خلفية ما حدث في الكونغرس الأميركي، يغذي لدى هؤلاء “نظرية المؤامرة”، ويوسع من مؤيدي بيئتهم التي تقدم نفسها حارسة للحريات.
ما يقلق مجتمع الاستخبارات، ومشرعي الدنمارك، الكشف، اليوم الأحد، بعد ليلة دامية، عن أن “رجال بالأسود” لم تعد مجرد حركة احتجاجية تتظاهر كل سبت، من دون إعلام الشرطة بأنها بصدد ذلك (حيث لا تحتاج المظاهرات إلى موافقة في البلد، إلا إذا كانت تحمل مشاعل وستقطع طرقات على الحافلات، فتتدخل الشرطة لتأمينها فقط)، بل “بدأ أعضاء الحركة يبحثون بجدية عن عناوين أعضاء برلمان من أحزاب يسار ويسار الوسط المؤيدة لحكومة فريدركسن”، بحسب الأمن الدنماركي.
والمقلق في هذا السياق أن بيئة “رجال بالأسود” باتت تناقش فيما بينها بأنه “يجب أن يحدث شيء، خصوصا بعد اقتحام الكونغرس الأميركي”، على ما تنقل “بوليتيكن” صبيحة اليوم الأحد، من مصادر أمنية على خلفية “شنق رمزي لرئيسة الوزراء (فريدركسن)”.
ضرورة حدوث “شيء” يبدو هو الذي دفع بجهازي الشرطة والاستخبارات إلى انتشار كثيف مساء السبت، بعد الكشف عن “دردشات سرية” بين الأعضاء.
ويذهب مسؤول وحدة الطوارئ في الأمن الدنماركي، بيتر دال، للتعبير عن “القلق” من وصول الأمر إلى البحث عن عناوين سياسيين ومشرعين في البلد.
وبالنسبة لدال، فإن “الدنمارك شهدت خلال الصيف والخريف وبداية الشتاء تظاهرات صاخبة ومحتجة، لكن دون هذا العنف الذي بتنا نلحظه أكثر، وخلال الأسابيع الماضية تصاعد بحيث لوحظ اصطدام مقصود للمحتجين بالشرطة، وخصوصا من قبل نواة صلبة في هذه المجموعات (رجال بالأسود)”.
وإذا كان بعض السياسيين يخشون من نعت التحركات بأنها “راديكالية من معسكر اليمين المتطرف”، فإن السياسي الدنماركي (من أصل فلسطيني-سوري) ناصر خضر لم يتردد، مساء أمس، في وصف الحركة بأنها ذات “توجهات فاشية”، فيما يقول سياسيون مشرعون صدمهم عنف ليلة أمس إن “الشنق الرمزي وحرق مجسم رئيسة الوزراء أمر مقلق ومقزز، ويثير أسئلة كثيرة لا علاقة لها بما يدعيه هؤلاء عن احتجاجهم على القيود المتزامنة مع مكافحة كورونا”.
يذكر أن أعضاء الحركة، ومؤيدين لهم من معسكر اليمين القومي المتشدد، يرفضون الكمامات واللقاح، ويعبرون عن رأيهم أن “كورونا مجرد حجة لتحكم السلطات بشعوبها”، وهو ما يقترب من خطاب نظرية المؤامرة المنتشر في أميركا وبعض دول أوروبا، وخصوصا عند الجارة الجنوبية ألمانيا، وفي صفوف اليمين القومي المتشدد في إيطاليا، حيث يلتقي هؤلاء فجأة على رواية جورج أورويل 1984، متخذين بعض اقتباسات منها لإقناع الناس أن ما يجري هو لفرض مزيد من تسلط الحكومات.
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة آرهوس، وسط، ميكال بانغ بيترسن، الذي يتابع تأثيرات كورونا على تصرف فئات مجتمعية، أن ما يجري “هو التقاء مجموعات عديدة، وهو ما يثير الدهشة في تنامي الغضب واستغلال قضية إعدام ملايين من حيوان المنك (بعد أن اتخذت فريدركسن قرارا بالتخلص من الملايين منه بعد انتشار كورونا المتحور وانتقاله إلى الإنسان قبل نحو شهرين) لتوجيه نقمة متزايدة على الحكومة والنظام السياسي القائم، ولا ينبغي الاستهانة بالإحباط الكامن وراء تطرف هذه الحركة، وكلما زاد السياسيون من تشديد القيود، واتساع نطاق ارتداء الكمامات وفرض التباعد بين الناس، ومنع التجمعات والعزلة، كلما أصبحنا أمام تطرف أوسع مع الوقت، يدعي فيه أع
ضاء هذه الحركة أنهم يمثلون الشعب في الحرب ضد النخبة السياسية التي لا يعترفون بسلطتها ولا أبحاثها العلمية”.
وأمام التحذيرات من استهداف النخبة الحاكمة بالعنف، أجرى الأمن الدنماركي عملية اعتقال طاولت 8 أشخاص، بتهمة “التحريض وارتكاب عنف ضد مسؤولين في مناصبهم”، ورغم ذلك تزايد مؤيدو الحركة وقوة مظاهراتها في الشارع، كما مساء أمس السبت.
ومن ناحيته، عبر وزير العدل، نيك هيكروب، أنه مسموح للناس التظاهر والتعبير عن رأيها، “لكننا شهدنا خلال الفترة الأخيرة أن الأمور لم تعد سلمية، بل تتعدد أشكال العنف ومحاولة استهداف السياسيين وضباط الشرطة”.
البروفسور بيترسن يرى أن أوروبا تشهد نشوء حركات فوضوية وسرية “معادية للنظام والنخب، وتحاول خلق فوضى باستغلال الجائحة، وتطرفها يتزايد، ومستعدة أكثر فأكثر للصدام واستخدام العنف، وما نشهده في الدنمارك هو جزء من حركة أوروبية أوسع، تتأسس فيها حركات موازية للمجتمعات، وتستلهم مع الوقت ما جرى في الكونغرس للتعبير عن عدم رضاها عن الأنظمة السياسية القائمة في الدول الديمقراطية”، وفقا لما نقلت عنه “فيكند أفيزن” اليوم الأحد.