النرويج التي نعرف اليوم لم تكن كذلك في السبعينات أو الثمانينات، فاكتشاف النفط فيها جاء متزامنا مع الفترة التي اكتُشِفَ فيها النفط في عمان؛ إذ تم اكتشاف النفط في عمان عام 1964، وتم تصديره للخارج لأول مرة في عام 1967، بينما تم اكتشاف حقل ايكوفيسك في النرويج عام 1969، ويعد من أكبر حقول النفط في اليابسة في العالم. اكتشاف النفط حوّل الدولتين اقتصاديًا واجتماعيا، ونقلهما إلى حقبة جديدة. هنالك نقاط تشابه أخرى بين النرويج وعمان؛ فالكثافة السكانية في النرويج مقاربة لعمان، إذ إن عدد سكان النرويج حوالي خمسة ملايين نسمة، في حين أن عدد سكان عمان هو حوالي 4 ملايين و 600 ألف بحسب إحصائيات عام 2017، مما يعني أن الدولتين تمتلكان عدد سكان متقارب جدًا. كما أن النرويج دولة تحتوي على ثروات كالنفط والغاز-كما ذكرنا سابقًا- وكذلك هو الأمر مع عمان، خصوصًا بعد اكتشاف مخزون الغاز الضخم في حقلي خزان ومبروك. وفيما يتعلق بالمساحة، فمساحة عمان ومساحة النرويج متقاربتان إلى حدٍ ما، أما مساحة عمان فتصل إلى حوالي 309 آلاف كيلومتر مربع، وأما مساحة النرويج فتبلغ 385 كيلومترًا مربعًا. ينضاف إلى ذلك أن الدولتين تتشابهان أيضا في امتلاكهما ثروات بحرية كبيرة، غير أنهما تختلفان – فقط- في أسلوب التعامل معها وإدارتها والاستفادة منها.
وبالرغم من كل نقاط الالتقاء هذه؛ إلا أن النرويج قد نجحت في صناعة اقتصاد قوي قادر على تفادي الأزمات؛ فاقتصاد النرويج نجح في توفير فرص عمل للمواطنين؛ إذ بلغت نسبة البطالة لديهم 4% في يوليو 2018[i]، أما في عمان فقد بلغت البطالة في الربع الأخير من 2018، 17%[ii] بين المواطنين. ويعود ذلك إلى قوانين الهجرة والعمل الصارمة في النرويج، فهي لا تسمح بدخول العمالة إليها بشكل غير ممنهج وبأعداد كبيرة؛ وإنما هنالك قوانين تنظم ذلك؛ لذا فعملية دخول العمالة الوافدة تكون ضمن خطة استراتيجية دقيقة جداً، وهجرة العمال تكون على أساس نوعية المهاجرين وكفاءتهم لا أعدادهم؛ إذ يتم جلب العمالة الماهرة والعقول المهاجرة فقط وبأعداد محدودة. وذلك لضمان توفر الوظائف للمواطنين النرويجيين أولاً، وحتى لا تتأثر ثقافة العمل لديهم.
قبل أن تصبح النرويج مثالاً اقتصاديًا ناجحًا، كان حالها مشابهًا لنا في السبعينات والثمانينات؛ إذ كان اقتصادها ريعيًا معتمدًا على النفط، ولكن أزمة التسعينات وهبوط أسعار النفط دفعها إلى تشكيل استراتيجية فعّالة لإدارة قطاع النفط والاقتصاد لديها. خلال تلك الفترات الصعبة، قام المستثمرون الأجانب بالتركيز على قطاع النفط والغاز فقط ، لذا فإن تدفق الأموال لم يكن مستقرًا، كما واجهت النرويج عوائق لعدم قدرتها على دفع ديونها لشركة مملوكة من مستثمرين أجانب؛ فأثر ذلك سلبيًا على تدفق الأموال وسيولتها[iii]. كما أنها قد تأثرت كثيرًا أثناء هبوط أسعار النفط في التسعينات، والنتيجة كانت خروج الاستثمارات من النرويج بشكل كبير؛ الأمر الذي أثر في الاقتصاد؛ إلا أن النرويج قامت بإدارة الأزمة آنذاك، وتعلمت من تجاربها السابقة؛ مما حفظها من الإصابة بالمرض الهولندي الذي يصيب الاقتصاد المعتمد على الموارد الطبيعية، وتفادت أيضًا لعنة النفط التي تهلك الدول الريعية.
اليوم النرويج تحتل المرتبة الـ 13 في تصدير النفط عالميًا؛ بينما عمان في المرتبة الـ 16والدولتان لم تنضما إلى منظمة أوبيك، وهنالك تقارب كبير بينهما في كميات إنتاج النفط. عملية التصدير هذه وعوائدها أسهمت في تطوير المجتمع النرويجي وتغييره[iv]؛ إذ يشكل قطاع النفط و الغاز 22% من إجمالي الناتج المحلي. قد تُعدّ هذه النسب كبيرة وهي تُعبّر عن اعتماد النرويج النسبي على هذا القطاع؛ ولكن في الحقيقة، قامت النرويج بتطوير خطة استراتيجية للتنمية المستدامة، أي إنّ هذه النسب ليست عبثية، وإنما هي نابعة من خطط دقيقة، كما أنها – أي النسب- بالمقارنة بعمان تبدو أصغر، ففي عمان يشكل النفط و الغاز 51% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، وتشكل عوائد النفط والغاز ومشتقاتهما ما نسبته 78% من ميزانية الدولة. وهنا تظهر أهمية استدامة التنمية والتنويع في مصادر الدخل القومي، فمثلا في عام 2018 قام المنتدى الاقتصادي الدولي للتنمية المستدامة بتصنيف النرويج لتكون الأولى على مستوى العالم في التنمية المستدامة؛ بينما عمان كانت في المرتبة الـ 52 عالميا وهي الأخيرة خليجيا. وأتى ذلك بعد أن نجحت حكومة النرويج في تنويع مصادر الاستثمار والأعمال والاقتصاد والصناعات؛ بينما فشلت عمان في تحقيق ذلك[v]. كما أنها حافظت على امتلاكها أكبر صندوق سيادي في العالم لسنوات طويلة[vi]؛ لذا فإن السببين الأخيرين ساهما في هروب النرويج وتجاوزها للعنة النفط التي تصيب اقتصادات العالم النفطية.
إلى جوار تنويع مصادر الدخل، ووجود أكبر صندوق سيادي في العالم قامت النرويج باستحداث سياسات جديدة و خطط تنموية جعلتها تنجح في الاستفادة من ثرواتها بالطريقة المثلى، في الوقت الذي غرقت فيه عمان في لعنة النفط. واستخدام النرويج هنا كنموذج لا يراد منه استنساخ التجربة كاملةً، وإنما الاستفادة من النجاح الاقتصادي للنرويج كونها دولة نفطية مرّت بتحديات كثيرة قبل أن تصل إلى ما هي عليه اليوم، وقد قامت النرويج بإدارة اقتصادها عن طريق الآتي:
أولاً: قامت النرويج بتنويع اقتصادها ولم تعتمد على عائدات النفط والغاز وحدها. وللقيام بذلك، تبنت الحكومة عدداً من السياسات لضمان تقليل الاعتماد على قطاع النفط، هدف هذه السياسات تركز على بناء بيئة مناسبة لنمو المشاريع الصغيرة والمتوسطة. كما عملت الحكومة على أن تشكل اقتصادًا مرنًا مبنيًا على الملكية العامة للمشاريع الكبيرة، مع بناء سوق خدمي تنافسي ومنفتح على العالم في الوقت نفسه، كما عملت على دعم قطاع التعليم بقوة في المرحلتين الأساسية والجامعية، وهو مجاني وبأعلى المواصفات الدولية، وكذلك ركزت النرويج على قطاع الصحة والخدمات الصحية وقطاع الإسكان إلى جانب النقل العام الذي يشكل مصدر دخل اقتصادي إلى جوار كونه أساسيًا لتسهيل حركة الناس بين الأسواق والمشاريع وفي تحسين بيئة العمل والاستثمار[vii]. بينما في عمان معدل الانفتاح على سوق الخدمات متدنٍ جدًا، وقد تم تصنيفه من ضمن الأسوأ عالميًا بناءً على مؤشر التنافسية الدولي في عام 2018، مع ضعف واضح في قطاعات التعليم والشركات الصغيرة والمتوسطة واحتكار بعض الشركات الكبرى للسوق المحلية مع دعم الحكومة لها وحمايتها من المنافسة مع الشركات العالمية، مع أنها لا تدفع الضرائب للحكومة ولا تلتزم بنسب التعمين.
ثانيًا: قامت النرويج ببناء نظام قانوني صارم جدًا يرتكز على الاستقلالية والشفافية، الأمر الذي أدى إلى القضاء على الفساد، وتقليص نسب تزويد المؤسسات بمعلومات وإحصائيات غير صحيحة، كما أن مصادرة الأملاك أصبح أمرا غير شائعٍ بسبب القانون القوي. ونتيجةً للنظام القانوني الصارم؛ ارتفعت نسب المساواة بين المواطنين، وتقلصت نسب الفساد في الدولة[viii]. كما أسهم وجود القوانين الفعالة في تفعيل دور مؤسسات المجتمع والإعلام، فأصبح الإعلام حرًا ويعمل بوصفه سلطة رابعة لإبقاء الشعب على وعي بما يحدث في مؤسسات بلدهم، لذا يمكن القول أن الإعلام المستقل إلى جانب النظام القانوني الصارم الذي يراقب الحسابات البنكية ويحاسب الفاسدين بكل شفافية له دور في صناعة اقتصاد نرويجي قوي. بينما تم تصنيف عمان من ضمن الأسوأ عالميا في مؤشر الشفافية واستقلال الإعلام كما أن مؤشرات الفساد عالية؛ فقد حلت عمان في المرتبة الـ 59 عالميًا كما ذكر في مؤشر التنافسية الدولي 2018، لذا فإن السير نحو نظام قانوني قوي كالنرويج، يحاسب المفسدين ويراقب تدفق أموال الأفراد والمؤسسات أمر في غاية الأهمية وينبغي لعمان أن تتبناه لتصلح اقتصادها.
(EITI) ثالثًا: تبنت النرويج المواصفات الدولية واستفادت من انضمامها إلى المنظمات العالمية؛ إذ قامت بتبني نظام مواصفات دولي يسمى بمبادرة الشفافية في قطاع الصناعات الاستخراجية، لضمان الوعي الشعبي فيما يخص إدارة الموارد الطبيعية. وبناءً على الصفحة الرسمية للمبادرة، فإن عمان ليست من ضمن الدول الأعضاء[ix]. مهمة هذه المبادرة تكمن في رفع معدل الشفافية في قطاع الصناعات الاستخراجية كالعقود التي توقّع، والمالك المستفيد، والترتيبات القانونية، والمبالغ التي تُدفع، وأين تذهب العوائد وبكم تُقدّر، وكم يساهم هذا القطاع في الاقتصاد بالإضافة إلى نسب التوظيف.
رابعًا: الثروة السمكية والبحرية، النرويج أيضًا تشبه عمان في كونها تمتلك ثروات سمكية هائلة بسبب امتلاكها ساحلًا طويلًا تمامًا كعمان؛ إلا أن الأولى قد نجحت في جعل هذا القطاع ينمو بشكل مطّرد خلال الأربعين سنة الماضية، ليصبح اليوم ثاني أكبر مساهم في الاقتصاد المحلي بعد النفط والغاز، ولم تكتفِ بذلك؛ بل قامت الحكومة بتصدير المنتجات البحرية للعالم لتصبح بعد ذلك ثاني أكبر مصدر للأسماك والمأكولات البحرية في العالم لعام [x]2017. ومع نجاحها هذا إلا أنها لم تؤذِ الحياة البحرية؛ بل قامت بإدارة هذا القطاع بشكل متوازن للاستفادة منه اقتصاديًا ولضمان استدامة الحياة البحرية أيضًا. وجدير بالذكر أن هذا القطاع ينمو بشكل سريعٍ جدًا، وهذا النمو يوفر وظائف كثيرة ويسمح بظهور مشاريع جديدة تخص الثروة البحرية. بينما لم تستطع الحكومة الاستفادة من الثروة السمكية الهائلة في عمان، وظلت تعاني من الصيد الجائر وغياب أي شركة وطنية معنية بهذا القطاع، مع معاناة المواطنين من العمالة الوافدة المنافسة لهم وكذلك الشركات الكبيرة التي تصطاد بلا ضوابط ودون توظيف المواطنين أو دفع الضرائب للحكومة.
في الخاتمة، تعدّ النرويج مثالاً ونموذجًا اقتصاديًا مهمًا لكل الدول النفطية في العالم، إلا أن وجود نقاط التقاء بينها وبين عمان كتقارب عدد السكان ووجود ثروات متشابهة ومساحة أراضٍ متقاربة يؤهلها لتكون نموذجًا لعمان أكثر من غيرها. وكما ذُكر سابقاً لا ينبغي أن نستنسخ كل ما عند النرويج، ولكن المقال هنا يطرح رؤية اقتصادية مبنية على تجربة النرويج التي مرت بانتكاسات اقتصادية تمامًا كما حدث معنا في عمان. وهذا دليل على أن اقتصادنا قادر على أن ينهض مرة أخرى ولا يجب أن نفقد الأمل فيه، وإنما علينا أن نبحث عن طرق أخرى بديلة غير تلك التي نتبناها الآن، لأنها هي نفسها المسؤولة عن سقوط الاقتصاد في السنوات الماضية؛ لذا علينا أن نحذو حذو النرويج، وأن نتعلم من سقطاتنا الأخيرة، وأن نتبنى سياسات جديدة لتحمي الاقتصاد العماني في المستقبل. كما أن علينا أن نتعلم من التجربة العمانية القديمة التي كانت من أوائل التجارب العربية في الانفتاح على أفريقيا والهند والصين وأمريكا وغيرها، إذ كنّا في السابق نقتبس من كل تلك الدول والحضارات التي عايشناها إلى أن وصلنا إلى حدودها لنصنع دولة متينة. فما الذي يمنعنا اليوم من أن نعود إلى تلك التجربة الثرية ونقتبس أيضًا من نموذج النرويج اليوم؟!