بقلم: طيار مهندس/ محمد الشعلان
ترتبط الصراعات التقليدية ارتباطًا وثيقًا باحتكار الإدارة النظامية بالدولة لاستخدام القوة المسلحة، ومع التطور أدى ذلك في ظهور بدائل واجبة وحتمية النفاذ وأطراف مسلحة قادرة على شن الحرب دون هوادة. تلك الأطراف المسلحة والتي هي تنظيمات ومجموعات التي تأخذ في هيئتها الشكل التنظيمي والزي العسكري والنمط المؤسسي إلا أنها لا تمت للدولة بصلة، فضلًا عن اعتمادها على الأيديولوجيات التي تخترق الحدود القومية في بعض الأحيان، فتصبح حرة طليقة لذاتها وصاحبة تقرير مصيرها؛ وتختذل قرار الحرب لنفسها بعيدًا عن أوامر قيادات الدولة. تعتبر حروب الجيل الخامس أكثر من مجرد تطور تقليدي لحروب الجيل الرابع وما قبلها.
فهي حرب بلا قيود تستخدم فيها الوسائل كافة لإجبار العدو على الرضوخ، ويتمثل أهمها في تأسيس تحالفات شبكية تضم جبهات وتنظيمات مسلحة وقد تقدم على التعاون معها دولًا تشاركها نفس الأيديولوجيات والاهتمامات والقوميات والمصالح ومشاريع السيطرة الواحدة، ويمكن القول إن هذا النوع من الحروب الخطيرة وذلك باتباع مخططات معينة.
والتي تشمل توظيف الأفراد باختلاف أفكارهم ودون النظر في ماضيهم وحاضرهم، والذين يسعون لتحقيق هدف سياسي وعسكري واستراتيجي مشترك، مع النظر لسرعة انتشاره، وقد تتصف بالغموض حول طبيعة ووجودية الصراع، والأطراف القائمة عليها. هنا يجب أن ننوه بأن الانتشار المسلح التقليدي للدول على أرض الواقع قد يدينها ويبيت نواياها والعواقب التي قد تتحملها في المستقبل كالعزل السياسي واللوجيستي وفرض العقوبات الاقتصادية، أو الإدانة والشجب وقطع المعونات والمساعدات العسكرية والمعونات الطبية والغذائية لشعوبها، أو غيرها من الإجراءات في حين أن الأفراد والتنظيمات المسلحة قد لا يتعرضون لمثل هذه التداعيات ولا يؤثر عليهم.
تعتبر النزاعات التي تشمل الجيوش الحديثة سمت رئيسي في تطوير آلة الحرب، فظهر في الأفق حروب الجيل السادس وذلك بالاقتران مع الحرب الإلكترونية، وحملات التضليل المتمثلة في الحرب المعلوماتية والهجمات المضادة للأقمار الصناعية. الهدف هو إخضاع الزخم المعلوماتي والبيانات، والاتصالات، وأجهزة الاستطلاع والاستخبارات، وأنظمة الأسلحة للسيطرة التشغيلية وتوجيهها لخدمة أغراضها. قد تجمع أكثر الإجراءات ضررًا بين الأسلحة الموجهة بدقة والهجمات الإلكترونية لتعطيل أو تدمير الأهداف الحرجة. يمكن أيضًا استخدام العمليات السيبرانية للتأثير السياسي من خلال تعطيل التمويل والطاقة والنقل والخدمات اللوجيستية للتغلب على عملية صنع القرار للمدافعين وخلق اضطراب مجتمعي وخلخلة بالبنية التحتية، وهذا ما اكتشفناه في النزاع الروسي الأوكراني، فقد جائت الحرب الروسية الأوكرانية لترجمة هذا النمط الجديد من الحروب؛ لتتجاوز في حد ذاتها الصراعات التقليدية المقيدة لتشمل في أهدافها الحرب السيبرانية والمعلوماتية، والحرب الاقتصادية والحرب الهجينة. حروب الجيل السادس فتحت أفقًا غير اعتيادية لم نتعرف عليها مسبقًا، وذلك من خلال استخدام الأسلحة الذكية لتأليب المجتمع من خلال التوجيه والتجنيد الجزئي والكامل لشبكات الحوسبة الرقمية العالمية وذلك من أجل خلخلة أوصال الفواعل وأعمدة الدولة المعادية وإلحاق الضرر بها عن بعد.
إن خطورة النزاع الحاصل بين روسيا وأوكرانيا اليوم، لم تتمثل في عداوة الغريمين وبعضهما البعض؛ فهي كانت ولا زالت، لكن في طريقة توظيف الذكاء الاصطناعي لاستهداف النظم العسكرية والمؤسسات والأفراد وصناعة الشيطنة المعلوماتية وتزييف الحقائق لدحر الخسائر أو كسب تعاطف الموالين من أجل تحقيق أغراضها، وكذا في صناعة فصائل مدعومة من حكومات الدول لإدارة حروب كاملة عن بعد.
يمكننا أن نرى حروب الجيل السادس كشكل من أشكال التطور الإنسانى الكبير، وليس بالمطلق، لكن تصل بنا إلى تصميم متكامل دقيق للفكرة التي نريد أن تقع فيها دولة أو فرد أو مجموعة، مستخدمين فى ذلك وسائل متطورة جدًّا، وتعد الحرب الإلكترونية هي شكل من أشكال حروب الجيل السادس وهي الأخطر على العالم من الحروب النووية وأسلحة الدمار الشامل إذا ماتم توظيفها لحرب خاطفة، فهي لا تتطلب ميزانية ضخمة لتطوير وتحسين الأسلحة، كما لا تسبقها أي مؤشرات مما توجد صعوبة في الكشف عنها والتنبؤ بها، فالنمط الافتراضي احتكره محاربي الحرب الإلكترونية والمتمثلة في جيش أوكرانيا الإلكتروني الذي فرض نفسه بقوة في قلب موازين النزاع بين روسيا وأوكرانيا الذي توقعه (فلاديمير بوتين) بأنها ستنتهي بسحق الجانب الأوكراني في غضون أيام، حتى أثبتت الأيام بأن الجيش الأوكراني لديه سلاح سري أقوى من الكلاشينكوف وصواريخ افنجارد وطائرات السوخوي، الا وهو سلاح الحرب المعلوماتية والسيبرانية المتمثلة في جيش أوكرانيا الإلكتروني – ITArmyUKR IT ARMY OF UKRAINE. يقول )فيكتور زورا(، نائب رئيس الدولة لشؤون الأمن والاتصالات: “أوكرانيا تخوض أول حرب إفتراضية في العالم، وأعتقد أن الحرب الإلكترونية لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية الحرب التقليدية، وسنفعل كل ما في وسعنا”. الجيش أوكرانيا الإلكتروني هي مجموعة تخضع للإشراف الجزئي من الحكومة الأوكرانية، لكنها أعضاؤها هم أصحاب من يقرروا مصير وموعد بداية ساعة الصفر إبان كل هجوم خاطف، وتضم أكثر القراصنة والمخترقين “هاكرز” رعبًا في تاريخ البنتستينج Pentesting، وأكثرهم فتكًا للأنظمة والشبكات الدولية دون أن تشعر بهم قوات دفاع أمن شبكات المستهدف، فلكم أن تتخيلوا أن هؤلاء أصبح لديهم القدرة في احتلال الشبكات المحلية بداخل روسيا والسيطرة على خوادم الأجهزة الأمنية الروسية وتسريب ملفات قيادات العسكريين داخل وخارج روسيا وامداد الدفاع الأوكراني بأدق المعلومات بتحركات الجيش الروسي المتوغل داخل أراضيها والكشف عن هوية كل أفراد العسكريين وتصفيتهم، الأمر الذي جعل الرئيس الأوكراني (فلوديميرزيلينيسكي) يأمر قيادات وزارة الدفاع الأوكراني في استحداث سلاح الطيران بالطائرات المسيرة لقنص الجنود الروس مثل صيده للعصافير على شجر الصنوبر في الربيع، وتدمير كل القطع الحربية المتوغلة في أنحاء البلاد، مما جعل الزحف صوب كييف اشبه بالمهمة الانتحارية.
يقول (هارف كزافيير) الخبير الأمني وعضو الجيش الإلكتروني الأوكراني، وأحد منفذي هجوم الإلكتروني الأخطر لعام 2022 ضد أنظمة خدمة يانديكس تاكسي Yandex Taxi، مما تسبب في ازدحام مروري هائل في موسكو وخسائر مالية مليونية للشركة: “ينقسم القراصنة الذين انضموا إلى المجموعة إلى وحدات إلكترونية هجومية ودفاعية. في حين أن وحدة القراصنة الهجومية تساعد الجيش الأوكراني في إجراء عمليات تجسس رقمية ضد القوات الروسية، أما الوحدة الدفاعية ستقوم بالدفاع عن البنية التحتية مثل محطات الطاقة وأنظمة المياه وشبكات الكهرباء والاتصالات والسكك الحديدية “.
في 28 فبراير 2022، اخترق الهاكرز الموقع الإلكتروني لبورصة موسكو Moscow Exchange. أعلن جيش تكنولوجيا المعلومات أن الأمر استغرق منهم خمس دقائق فقط حتى يتعذر الوصول إلى الموقع. وفي نفس اليوم، تم اختراق سبيربنكSber bank ، أكبر بنك في روسيا وتكبد خسائر بالملايين. في اليوم التالي، شن جيش أوكرانيا الإلكتروني هجمات على مواقع روسية وبيلاروسية أخرى، بما في ذلك المواقع الحكومية لروسيا وبيلاروسيا، وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي FSB ووكالة الأنباء البيلاروسية الحكومية (بيلتا)، من بين مواقع أخرى. لم تسلم وكالة الفضاء الروسية روسكوزموز Roscosmos هي الأخرى من مخالب قراصنة الجيش الإلكتروني، بالإضافة إلى ثمانمائة موقع روسي آخر وذلك في الفترة من 27 يونيو إلى 10 يوليو، وقاموا بنشر رسائل تهنئة بيوم الدستور الأوكراني على تلك المواقع. إلى جانب ذلك، أدت هجمات رفض الخدمة الموزعة التي نفذها جيش أوكرانيا الإلكتروني إلى شل قدرة روسيا على العمل على بعض أنظمة إدارة علاقات العملاء لفترات طويلة. وفي الفترة من 26 فبراير إلى 30 يوليو أفادت وزارة التحول الرقمي عن هجمات إلكترونية على أكثر من 6000 مصدر ويب روسي، وكذا تم استهدافها لموقع مجموعة فاغنر Wagner وسرقت بيانات شخصية لأخطر عملائها ومعلومات عن المرتزقة الذين تم تجنيدهم حديثًا. مؤخرا، تمكن جيش أوكرانيا الأوكراني من تنفيذ هجوم ناجح على منظمة الحرس الشاب (روسيا الموحدة)، كما اخترق موارد وحصل على بيانات مثيرة للاهتمام من هناك، وكانت هذه البيانات مهمة للغاية ستساعد في الحرب ضد روسيا، كونها تخفي بين طياتها جرائم الحرب وإجراء “استفتاء الانفصال” لإقليم الدونباس- بجنوب شرق أوكرانيا لضمهم مستقبلًا لروسيا الاتحادية والذي هو في نظر الكثيرين غير قانوني.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنه قد يسيء قول ذلك للمجتمع الإلكتروني، لكن الهجمات الإلكترونية مبالغ فيها. في حين أنها لا تقدر بثمن بالنسبة لعمليات التجسس، كونها حاسمة في النزاع المستمر بين روسيا وأوكرانيا. إن الهجوم السيبراني المحض، غير كافٍ لإجبار أي خصم، عدا الخصم الأكثر هشاشة، على قبول الهزيمة. لم يقتل أحد من قبل في هجوم إلكتروني، لكن قد تكون الأضراركارثية، لكن هذه الهجمات عادةً لا تخلق ميزة استراتيجية- والتي يمكن تعريفها على أنها إجبار الخصم على إجراء تغييرات أو تنازلات لم يكن ليحصل عليها بخلاف ذلك، إلا لو تتم استخدامها على نطاق واسع وبطريقة مستدامة، غير منسقة ومتفرقة من خلال جهود متواصلة ومنهجية لإلحاق الضرر بقدرة الخصم على المقاومة.
بقلم: طيار مهندس/ محمد الشعلان
- عضو جمعية المهندسين ببلجيكا
- عضو رابطة الطيارين بلوكسبورغ
- عضو جمعية مهندسي الطيران العسكريين بأوكلاهوما، الولايات المتحدة