هولندا – أحمد محمود
لم تكن السيدة السورية فوزية ترغب بشيء سوى أن تصل إلى عائلتها التي فرت إلى هولندا رغم أنها لا تستطيع المشي بشكل جيد فهي “صغيرة الحجم” وتعاني من ضعف السمع، لكنها تجرأت وسافرت مع اثنين من أبناء عمومتها على متن قارب في رحلة عبر البحر استمرت لمدة سبعة أيام خاضت خلالها الأهوال.
وفي كل مرة كانت تنظر إلى البحر الذي رأته عدة مرات خلال إجازات العائلة في اللاذقية، كان قلبها يخفق من الخوف. وتقول فوزية لموقع تلفزيون “RTL” نيوز الهولندي: “لطالما كنت أخشى البحر، إنه عميق جداً”. لكنها لم تكن تعلم حينذاك أنها بعد بضع سنوات ستخوض رحلة خطيرة في ذات البحر إلى الغرب.
وبعد الهجمات الأكثر دموية بغاز الأعصاب التي شنتها قوات النظام السوري في عام 2013 على الغوطة الشرقية قررت عائلة فوزية مغادرة سوريا. وفي عام 2014 استقلت قارباً من تركيا إلى جنوب أوروبا مع أبناء عمومتها، لتلحق ببقية أفراد عائلتها الذين كانوا في هولندا، حيث لم يكن أمامها خيار آخر غير السفر “بشكل غير قانوني”.
بداية الرحلة والمعاناة
تعيش فوزية مع شقيقها وزوج أختها في منزل واحد في هولندا، وتمشي متكئة على عكازها الخشبي (ذي الأربع أقدام) إلى المقعد الذي تجلس عليه دائماً، وبعد أن صعدت بصعوبة على المقعد قالت: “الآن يمكنني أن أخبركم بكل شيء عن رحلتي إلى هولندا”.
ولمدة أسبوعين، كل ليلة في ذلك الوقت، كنا نندفع إلى شاحنة مكتظة باللاجئين، ثم نسافر من مدينة مرسين التركية إلى البحر في انتظار القارب الذي سيأخذنا إلى المياه الدولية، هناك سننقل إلى سفينة أكبر، لقد دفعنا 6000 دولار لكل شخص مقابل ذلك. وبعد أسبوعين من الانتظار ظهر القارب، تضيف فوزية: “عندما رأيت ضوءه في البحر، خفق قلبي وأدركت أن تلك الرحلة المرعبة ستبدأ حقاً”.
وعدهم المهرب بسفينة كبيرة يبلغ طولها 80 متراً، وتستوعب 150 لاجئاً وسترات نجاة وبطانيات للجميع، لكن تبين أن الواقع مختلف: قارب صيد طوله 24 متراً يتسع لـ 250 لاجئاً، به 20 سترة نجاة و20 بطانية. “ليس لديك الكثير من الخيارات، بمجرد أن تكون على متن القارب، لم يعد من الممكن العودة إلى البر، صاح أحد المهربين: “إذا كنت تريد العودة، يمكنك، ولكن بعد ذلك عليك أن تسبح”.
تقول فوزية: “اصطحبني مهربان إلى حجرة مظلمة في مقدمة القارب، حيث كانت النساء الأخريات جالسات بالفعل، كانت الكابينة صغيرة ومثلثة الشكل، بها فتحتان ذات حواف بيضاء، وكانت الأرضية موحلة والجدران مغطاة ببقع زيتية سوداء، تفوح منها رائحة الأسماك الفاسدة. وعندما جلست في تلك الكابينة القذرة، أدركت أن لا قيمة للإنسان هنا”.
مرض نادر
ولدت فوزية عام 1950 في قرية تابعة لهضبة الجولان السورية المحتلة من قبل إسرائيل، لديها اضطراب نمو نادر يسمى “الودانة” يُطلق على الأشخاص الذين يعانون من “الودانة” الأقزام، لديهم أذرع وأرجل قصيرة، والتي تتشكل بشكل مختلف عن المعتاد، مما قد يسبب مشكلات في الحركة، ويختلف شكل الجمجمة، مما يؤدي إلى ضعف السمع لدى بعض الأشخاص، هذا هو الحال أيضاً مع فوزية، حيث تعاني من قنوات أذنها الضيقة جداً.
عاصفة وصراخ.. وولادة!
بالعودة إلى الرحلة، مر أول يومين من رحلتها بسلاسة، كان البحر هادئاً، ولم تكن هناك أمواج تقريباً، وأخذ الجميع مكاناً للنوم على متن القارب. وفي وقت مبكر من مساء اليوم الثالث، بدأت تهب الرياح بقوة وتساقط المطر، نظرت فوزية إلى البحر الذي لم يعد أزرقاً وأصبح داكن اللون.
تقول فوزية: “أصبحت الأمواج أعلى وأكبر من القارب الذي كان عليه أن يركب كل موجة، ثم يسقط مرة أخرى، ويلقي بالجميع إلى جانب واحد، كان جميع الرجال والنساء والأطفال يصرخون من الخوف، لم يكن هناك نوم في تلك الليلة”.
قبل الفجر، تلاشت العاصفة وهدأت الأمواج، كادت فوزية أن تنام عندما سمعت أنيناً، وسرعان ما تحول إلى صراخ، إنها امرأة كانت تصرخ وهي تلد وكانت راقدة عند باب الكابينة: “أرجوكم ساعدوني، نزل ماء الولادة”.
اجتمعت جميع النساء حولها لمساعدتها، بما في ذلك فوزية، وضعوا بطانية على الأرض وتركوا المرأة تستلقي على ظهرها، جلست إحدى النساء بجانبها وحاولت مساعدتها في التنفس، وبعد ولادة الطفلة، أخذت فوزية مقصاً من كيس أسود كان بجانبها وقطعت الحبل السري. تضيف فوزية مبتسمة: “كان الأمر رائعاً، لم يكن لدي أطفال ولم أشعر أبداً بالأمومة، لكن في ذلك اليوم شعرت بها بقوة كبيرة”.
جوع وعطش
مر اليوم الرابع بسلام، وشعرت فوزية بالجوع والعطش، تناولت فوزية رشفة من الشاي الذي كان يعد رفاهية على متن القارب، فالطعام الوحيد الموجود منذ بداية الرحلة هو الخبز المتعفن والفاصوليا المعلبة، وكان الماء ممزوجاً بزيت الديزل، كي يشرب المسافرون القليل منه فقط، فقد ألقى المهربون طعامهم في البحر لأن القارب كان ممتلئاً.
وفي اليوم الخامس، بدأ المطر يهطل مرة أخرى في فترة ما بعد الظهر، هذه المرة كانت العاصفة أكثر عنفاً، بدأ المسافرون بالصراخ خوفاً، وسمعت فوزية المهربين يشتمون. وحاول الركاب سحب المياه من القارب بالأطباق والأكواب. وظنت فوزية أنهم ميتون لا محالة.
ولادة من جديد
في مساء اليوم السادس كانت ما تزال العاصفة مستمرة، وأصيب كثير من الناس بدوار البحر، وكادت فوزية أن تفقد الأمل، كانت ما تزال تجرف المياه عندما سمعت صوتاً قوياً، لم تعرف مصدره، حتى سطع ضوء ساطع في المقصورة. لقد كانت سفينة بحرية هي التي أنقذتهم وأخذتهم إلى ساحل يقع جنوبي إيطاليا، وتضيف فوزية: “عندما رأيت البر من بعيد، شعرت وكأنني ولدت من جديد”.
نُقلت فوزية وأقاربها إلى مخيم للاجئين في بلدة جنوبي إيطاليا، ناموا هناك ليلة واحدة، فقد كان عليهم السفر مباشرة إلى العائلة في هولندا لتجنب الاضطرار إلى التقدم بطلب للحصول على اللجوء في تلك البلدة.
بالنسبة لفوزية، من هنا بدأ الجزء الأصعب من الرحلة، لأنها لا تستطيع المشي لمسافات طويلة، وتتذكر كيف رفعها أقاربها وربطوا ذراعيهم بذراعها من اليمين واليسار، وحملوها وركضوا معها.
اختباء وخوف قبل الاستقرار.
اضطرت فوزية وأقاربها للاختباء في مكان ما لبضعة أيام حتى رتبوا سيارة ستأخذهم إلى هولندا، كانت تلك الأيام مُرهقة للغاية، وكانت تخشى من أن يقبض عليهم ويجبروا على تقديم طلب اللجوء في بلد آخر بعيداً عن عائلتها. ولم تطمئن إلا عندما وصلوا إلى هولندا وحصلوا على حق اللجوء.
وبعد تنقلهم عبر ثلاثة مراكز لجوء، انتقلت فوزية في تموز 2015 إلى مدينة (نيوخين) الهولندية حيث يعيش أقاربها، ولكنها لم تستطع تعلم اللغة بسبب ضعف سمعها وعدم مغادرتها المنزل كثيراً، فغالباً ما تجلس خلف النافذة تراقب القوارب وهي تبحر.
لا يمكن لفوزية التحرك بشكل مستقل على كرسي متحرك، تقول: “ذراعاي قصيرتان جداً، وفي سوريا كنت دائماً مستقلة، عملت في رعي قطيع من الأبقار خلال فترة شبابي، وفي دمشق كنت أعمل في مصنع شوكولاتة وكان لدي دائماً حياة اجتماعية”.
تجد فوزية صعوبة في أن تطلب المساعدة من شخص ما عندما تريد الخروج، ولكن على الرغم من كل ذلك، أقامت صداقة مع إحدى جاراتها الهولنديات، التي تأتي غالباً لتناول كوب من الشاي معها، ويتوصلان بالإيماءات. تقول فوزية: “لا أريد أن أتراجع بسبب إعاقتي (..) أريد أن أكون قادرة على فعل ما أستمتع به