صهيب عبد الرحمن
في هذه الرواية، يستمر فارح في الاشتغال على المسألة الصومالية بشقّها الخارجي، كما عمله الأسبق المعنوَن بـ”الاختباء في العراء” الصادر عام 2014، حيث توثق أحداث الروايتين بمفرزات الحرب الصومالية مع استمرارية المعاناة في الخارج تحت صفة لاجئين فارّين من حرب، وهي معاناة لا تقتصر على التطرف والتعصب والإرهاب والانقسامات العشائرية التي لحقت مجتمعات الهجرة الصومالية إلى منافيهم الجديدة، بل كذلك العنف المادي والمعنوي الذي يرتكبه اليمين المتطرف ضد اللاجئين في موطنهم الجديد.
أحداث الرواية
تفتتح الرواية بمشهد شاب يهرب من عائلته الصومالية- النرويجية الى الصومال، يُدعي دقاني، بعد أن اعتنق التطرف الديني، وتقفز الرواية بين الأزمنة من أجل خلق جو من التشويق وأيضاً
من أجل تنظيم ماضي دقاني وحاضره.
رحل موغدي، وهو والد دقاني، من الصومال عام 1988 إلى النرويج مع زوجته جعالو، ويقوم موغدي بتجميع وترجمة رواية نرويجية غامضة، بينما تعمل زوجته جعالو في دائرة حكومية. التحدي الذي يواجه هاتين الشخصيتين يتمثل من جهة بإرضاء الجناح اليميني في النرويج وإقناعه بأنهما مواطنان صالحان، لا يشكّلان تهديدا على نمط حياته الأوروبية، وفي الوقت نفسه يواجهان تحديّا لا يقل صعوبة من قبل أسرتيهما، بسبب حياتهما العلمانية المنفتحة التي تستدعي السخط من قبل أسرتيهما ومعارفهما القريبين.
تتصاعد أحداث الرواية، بانضمام ابنهما الذي ولد في النرويج، دقاني، إلى خلية إرهابية في أوسلو قبل أن يفرّ إلى الصومال، حيث يفجر نفسه في هجوم انتحاري تنفذه حركة الشباب بالقرب من مقديشو. ويشعر موغدي بالاشمئزاز والإهانة من ابنه، ولا يريد أي علاقة بذاكرة ابنه، لكن زوجته جعالو تصرّ على رعاية زوجة ابنها وطفليه.
وقبيل انتحار دقاني، سيترك رسالة لوالديه يطلب منهما رعاية طفليه وزوجته، المتواجدين في مخيم لجوء في كينيا، وسيسلك الثلاثة طرقا ملتوية ومرهقة من مخيم للاجئين في كينيا في طريقهم إلى أوسلو. يسافرون عن طريق عنتيبي ودمشق ونيقوسيا وروما وبروكسل وفرانكفورت بالطائرات والقطارات مع جوازات سفر تنزانية مزورة.
في النهاية ستتمكن الأرملة وطفلاها من دخول النرويج برعاية موغدي وجعالو. وفي أول وهلة من اللقاء، ترفض ولية، أرملة دقاني، التي كانت ترتدي جلباباً كبيراً، ربط حزام أمان السيارة، وتشرع بدل ذلك بتمتمة بعض آيات من القرآن من الكرسي الخلفي من سيارة موغدي، قائلة إن مسألة وفاتها بيد الله. يرد موغدي على أنه قد يتعين عليه دفع غرامة باهظة للشرطة إذا لم تربط حزام الأمان. بهذا المشهد من التباين في الرؤى تكون خطوط المعركة القادمة داخل الأسرة قد رُسمت.
سيعود بنا السارد عبر تقنية الفلاش باك إلى طفولة دقاني؛ طفل ولد في الغرب، وعاش بحسب نمط العيش الأوروبي، وقضى طفولته في عزف الموسيقى وحفلات الرقص ومشاهدة الافلام الإباحية بخفاء، وحين كان يسأل عن الصومال، لم يكن يفكر بها على أنها هي بلده، ولم تكن تربطه بها أوهى رابطة. لكنه سيتحول إلى النقيض من ذلك، في البداية تظهر عليه علامات الميل إلى الانعزال، ويصير يقضي وقته بين الجامعة حيث يدرس الإعلام، وبين المسجد حيث ينسج علاقة صداقة قريبة مع إمام المسجد المتطرف.
تصور الرواية اختطاف الفكر الوهابي للمجتمع الصومالي وتأثيرات ذلك، ويشرح السارد عن التدين الذي كان سائدا في الصومال قبل الغزو الوهابي، وكيف كان الجنسان مختلطين، وتظهر أحداث الرواية عواقب الفصل العنيف الذي أحدثته الأيديولوجية الدينية الجديدة. في أحد المشاهد يصل الأمر إلى أن يظل الباب مغلقاً في حال غياب الرجال من البيت، كما تظهر في المجتمع الصومالي ممارسات مثل عدم المصافحة بين المرأة والرجل، والوصاية الأخلاقية على المرأة في البيت، واعتبارها شرف الأسرة، الذي يجب حجبه داخل الجدران.
في مشهد آخر يتعاون إمام المسجد المتطرف، مع ولية، أرملة داقني، لتعذيب طفلها نعيم، لأنهما شكا بأنه شرب خمراً مع أصدقائه النرويجيين، وسيقيمان على نعيم بحد الخمر، وهي الجلد على الظهر، لكن بما أنهما ليسا في الصومال، سيشكو الطفل إلى الشرطة، وستسمع عن قصته منظمات رعاية الأطفال في البلد، وسينتهي أمر إمام المسجد بالسجن لعدة سنوات.
تشريح مجتمعات الهجرة
صديق موغي النرويجي فريدريك يشتغل على رسالة دكتوراه مقارنة بين المهاجرين الصوماليين والنرويجيين في ولاية مينيسوتا الأميركية، ويشرح الفروق بين مجتمعات الهجرة الأوروبية التي استولت على المدن الأميركية، ومجتمعات الهجرة الجديدة، ويقول إن النرويجيين الذين هاجروا إلى أميركا الشمالية كانوا مزارعين فقراء وفي حاجة إلى أراض صالحة للزراعة، ووصولهم إلى الولايات المتحدة في وقت مبكر في عام 1860 تزامن مع عمليات إبادة السكان الأميركيين الأصليين في مانكاتو خلال رئاسة لنكولن، وهذا ما سمح لهم بالحصول على أراض رخيصة، حيث في بعض الأحيان كان يكلّف الفدان أقل من دولار واحد، ولهذا ليس من المستغرب إن كانوا ناجحين في موطنهم الجديد.
أما الصوماليون فيختلف الأمر بالنسبة لهم، فهم وصلوا إلى مينيسوتا والنرويج بشكل جماعي كلاجئين، وكثير منهم قليلو التعليم أو أميّون، ووجدوا المناخ في كل من النرويج ومينيسوتا غير مناسب لهم بسبب البرد القارص، لكن حسبما يشرح فريدريك يتمثل الفرق الأبرز بأن الصوماليين ذهبوا إلى هناك بسبب ندوب الحرب في بلادهم ومتعلقاتها من كوارث، في حين هبط النرويجيون في أميركا وهم مليئون بالأمل والحيوية، وساعدهم الموقف الذي وجدوه: “أراض كبيرة للزراعة، ودعم مطلق من جانب الدولة، فقد تم الترحيب بالنرويجيين بأذرع مفتوحة، بينما هنا في النرويج، الصوماليون كائنات غير مرحب بها؛ لا شيء أسوأ من أن تكون في أوروبا كلاجئ مسلمٍ وأسودٍ في الوقت نفسه، في وقت صارت الهجرة مشكلة سياسية ينظر على أنها تهديد للنرويجيين، كما تصرحّ بذلك الجماعات اليمينية التي تعتبر الصوماليين آفة حقيقية أسوأ من الأوبئة والأمراض”.
تهديد التطرف اليميني الأوروبي
فور وصول موغدي إلى النرويج يعلم بوقوع حادث إرهاب استهدف مسلمين قبل وصوله بعامين، حين هاجم شاب في التاسعة والعشرين من عمره ينتمي الى الحزب اليميني المتطرف بتفجير يدوي داخل مسجد، وقتل مصلّين هناك، وهي حوادث تنامت منذ ذلك الوقت.
وتخصص الرواية من خلال ذلك حيزاً كبير لمناقشة خطر اليمين المتطرف على اللاجئين والأجانب. يقول السارد على لسان موغدي: “إن السمة الأساسية التي تجمع بين دعاية اليمين الشعبوي والمتعاطفين معه، وبين الجهاديين الإٍسلاميين، أنهم يستهدفون ذوي الأقل تعليماً من المجتمع، ويستقطبون الشبان المتسرّبين من المدارس، أو الذين يعيشون بعيداً عن والديهم. كما أن كلا الفريقين لا يترددان في نشر الأكاذيب الأيديولوجية حول خصومهم”.
يخبر موغدي أحفاده، عن قصة الرجل الليزر the Laser Man وهو رجل قتل أحد عشر مهاجرا بين عامي 1991 و1992 في السويد، حيث كان يعتقد أنه بإطلاق النار على اللاجئين والأجانب، سوف يتمكن من طردهم من السويد، لكنه يقضي الآن عقوبة السجن مدى الحياة. يضيف موغدي: “لكننا انتظرنا وقوع حادثة بريفيك الإرهابية (في عام 2011)، لماذا؟ لأن سياسات الدول الأوروبية بطيئة للغاية في مواجهة تهديد عناصر الجناح اليميني الكاره للأجانب والذين ينظرون بفخر إلى النازيين والمتعلقين بماضي النقاء الأوروبي، والذين لا يرون الحاضر المعولم والمتعدد الثقافات، لقد تحرك العالم من حولهم لكنهم لم يفعلوا”.
أسى الكاتب ولوعته
تتسرب من صفحات هذه الرواية نبرة حزن وأسى يتم نقلها بشكل رئيسي من خلال شخصية موغدي، الرجل السبعيني المُنهك بالحزن المزمن الذي لحقه من جراء مشاهدة سقوط بلاده
أمامه وكأنه نجم مظلم يتهاوى. “تخيل أن ينهار منزل واحد ويحصد عدداً قليلاً من الأرواح”، يقول موغدي. “ثم فكر في الضرر الذي قد يحدث إذا ما انهارت دولة بأكملها على رؤوس مواطنيها، كما حدث في الصومال عام 1991″. يبدو هذا الحزن كما لو أنه حزن الكاتب نفسه، الذي شاهد بلاده تتهاوى بلا هوادة إلى عقر سحيق، وظلّ يكتب عنها طيلة نصف قرن من الزمن على هذا الضياع الأبديّ.
في العموم، لم يخرج فارح في روايته الجديدة عن أسلوبه المعتاد في سرد الوطن، والهوية، والحرب، والموت، والتطرف، والانقسام الصومالي، وعن ولعه بالجنس الذي يطبع كل رواياته. ومن خلال المزج بين الماضي والحاضر، يستوحي الصور من ماضي الصومال العلماني الذي يدعوه بشكل موقّت، وهو لن يعود إلّا في ذاكرة جيله، لكنه خارج الذاكرة يواجه مرارة الواقع المشحون بالإحباط والتطرف واليأس.
شخصيات ” شمالاً من البزوغ” هي شخصيات حقيقية من لحم ودم، حيث سنرى في آخر الرواية تقديم الكاتب شكره وامتنانه لقائمة طويلة من الأشخاص الذين قابلهم في أوقات مختلفة، وصنع عن قصصهم هذا العمل. وبالرغم من أنه يمكننا الجزم بقوة الطرح الذي تفصح عنه الرواية انطلاقاً مما تضمره من أسئلة مؤرقة وما ترصده من مصائر وحالات ومشاهد وأوضاع معيشية تختزن ظروف مجتمعات اللجوء والهجرة، فإن أبرز ما يؤخذ على هذا العمل هو ضآلة المتعة الحكائية والبصرية، وخلو العمل من أي نكهة وتشويق، حيث اعتمد المؤلف في عمله على بناء هندسي سردي رتيب، تطغى عليه الحوارات، لكن عملا بمقولة باختين أن الرواية جنس “حواري”، فإنه ينجح بكل عفوية في تقديم صورة مجتمعات الهجرة الحديثة، والولوجَ في بنيتها الاجتماعية بانقساماتها المتباينة وممارساتها الحياتية.
القدس العربي