عندما تلفّظ بكلمات نابية ضد الأطباء الكوبيين في بلاده، كان الرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو يعزف على وتر العداء للأجانب ولم يتحسّب للخطوة الانتقامية التي قد يتخذها ورثة الرفيق فيدل كاسترو.
على الفور، قررت هافانا استدعاء 8000 طبيب كوبي يعملون في مختلف أرجاء البرازيل ويقدمون خدمات صحية احترافية لملايين الفقراء في المدن والقرى البعيدة.
وفي يوم الجمعة الماضي شوهد مئات الأطباء الكوبيين يرتدون معاطفهم البيضاء ويصطفون في طابور بمطار برازيليا للصعود إلى طائرة أقلتهم إلى هافانا حيث احتفت السلطات “بالأبطال العائدين”.
وعلى تويتر كتب الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل “صباح الجمعة بدأ رسل الصحة الكوبية العودة إلى وطنهم. نرحب بالرجال والنساء الذين صنعوا تاريخ البرازيل. أهلا بكم في بيتكم”.
وأثناء استقبالها للعائدين قالت ريغلا أنغولو نائبة وزير الصحة “إن المبادئ والكرامة ليست مطروحة للتفاوض”.
القرار الحاسم الذي اتخذه الرئيس الكوبي يقضي بعودة 6300 طبيب قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول المقبل، بينما يسمح لـ2000 بالبقاء لمزيد من الوقت لأسباب عائلية.
وبمجرد أن بدأ الكوبيون رحلة العودة دخلت البرازيل في أزمة صحية كبيرة، وأعلنت الحكومة عزمها اكتتاب 17 ألف طبيب لملء الفراغ.
الطواقم الطبية الكوبية عملت في أفقر المناطق البرازيلية ونسجت علاقات مع المجتمعات (غيتي) |
الفقراء يبكونهم
لكن القرى والبلدات البرازيلية، بكت الأطباء الكوبيين الذين تميزوا بتواضعهم وعطفهم على الفقراء في المناطق النائية، وفق تقارير نشرتها وسائل الإعلام.
وعندما تعين على الطبيب الشاب ميغيل بانتويا المغادرة إلى كوبا، نزل الخبر كالصاعقة على القروية المتقاعدة إينيدينا دي أوليفيرا.
وقد مثل القرار كارثة لأربعة آلاف شخص يقطنون في بلدة موتيراو الفقيرة حيث ظل الشاب الكوبي يعالجهم ويتعهدهم على دراجته النارية منذ عام 2013.
ووفق بيانات أصدرها عمد مدن وبلدات برازيلية، فإن رحيل أطباء كوبا أدى لحرمان 30 مليون شخص فقير من الخدمات الصحية.
ويعمل الطيب الكوبي في البرازيل براتب قدره 3500 دولار يستلم منها 30% والباقي يحول لحكومته، لكنه يظل يستلم راتبه الأصلي في وطنه.
وهذه المبالغ التي تقتطعها كوبا من الأطباء الموفدين “تذهب إلى الجامعات والمدارس والمستشفيات التي تحتاج إليها كوبا. فالصحة على غرار الجامعة مجانيتان بالكامل”.
دبلوماسية الطب
عمليا، ألغى قرار هافانا برنامج “مزيد من الأطباء” الذي أنشأته رئيسة البرازيل السابقة اليسارية ديلما روسيف ويهدف أساسا إلى توفير الخدمات الصحية في مناطق الفقراء التي يرفض أطباء البرازيل الاستقرار فيها.
بيد أن عودة سفراء الطب لن تشكل تحديا لكوبا، إذ يكثر الطلب عليهم من مختلف دول العالم في إطار سياسة يطلق عليها اسم “القمصان البيض” انطلقت بعد سنوات من انتصار الثورة التي قادها فيدل كاسترو في 1959.
ومنذ ستينيات القرن الماضي استثمرت كوبا في التعليم خصوصا في المجال الصحي وقد بات تصدير الأطباء يمثل دعامة مهمة لاقتصادها ودبلوماسيتها.
في الجانب الدبلوماسي، عكست كوبا من خلال “سفراء الطب” أنها ليست جزيرة منعزلة ومتخلفة كما تصورها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب.
وقد برهنت الطواقم الطبية الكوبية على كفاءتها وقدمت خدمات جليلة في العديد من المناطق المنكوبة بآسيا وأفريقيا والأميركيتين.
تصدير الأطباء
وفي الجانب الاقتصادي، يعد الأطباء أهم بضاعة تصدرها هافانا إلى العالم، حيث تجني من ذلك أرباحا تتجاوز 11 مليار دولار سنويا.
وحاليا، يوجد أزيد من 45 ألف طبيب كوبي في 67 دولة في مختلف القارات إلى جانب عشرات الآلاف من الممرضين والفنيين والمسعفين.
ففي بوليفيا يوجد أكثر من 700 اختصاصي كوبي في مختلف محافظات البلاد وبعضهم يعمل في مناطق نائية.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، قالت وزيرة الصحة البوليفية أريانا كامبيرو إن “المدرسة الأميركية اللاتينية للطب كانت فكرة حولها إلى واقع زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو، وهي تستند إلى المبادئ والإرث التاريخي للقائد الثوري آرنيستو تشي غيفارا“.
كذلك، يعمل مئات الأطباء الكوبيين في هايتي الفقيرة جدا، وفي تيمور الشرقية يعمل 182 اختصاصيا وفنيا من كوبا.
وفي الفترة من 1963 إلى 2004 أنشأت كوبا مرافق صحية في كل من اليمن وغينيا وإثيوبيا وغينيا بيساو وأوغندا وغانا وغامبيا وغينيا الاستوائية.
ووفق بيانات حديثة لوزارة الصحة الكوبية، فإن 2500 من أطبائها يعلمون في 32 دولة أفريقية بينهم المئات في جنوب أفريقيا وحدها. ويرافق هؤلاء الأطباء حوالي 2000 من المسعفين والممرضين والفنيين.
كوبا تنفق 10.6 من الناتج القومي على الصحة وتحصل على 11 مليار دولار سنويا من تصدير الأطباء للعالم (رويترز) |
النفط مقابل الأطباء
وفي فنزويلا، يعمل 10 آلاف طبيب كوبي في مختلف التخصصات مقابل حصول هافانا على 100 ألف برميل نفط يوميا بأسعار مخفضة من كراكاس.
وكذلك يعمل أطباء كوبا في الجزائر منذ عقود نظرا لوشائج الثورة والاشتراكية بين البلدين، ومؤخرا وقع الجانبان اتفاقية أطلق عليها النفط “مقابل الأطباء”، وبموجبها توفد هافانا المزيد من الكوادر الصحية للجزائر مقابل حصولها على الوقود الجزائري.
وفي قطر يضم المستشفى الكوبي 455 من الكوادر الطبية المحترفة ويقدم رعاية طبية توصف بأنها عالية الجودة ويحظى بسمعة حسنة في البلاد
وفي السعودية يحظى الأطباء الكوبيون بسمعة حسنة وفي 2012 وقعت الرياض وهافانا اتفاقية لضخ المزيد من الاستشاريين الكوكبيين في مختلف المستشفيات السعودية.
أما في موريتانيا فيعد المستشفى الكوبي بنواذيبو أرقى المرافق الصحية في البلاد، ويتكون من عدة أجنحة تغطي الأمراض الباطنية والحالات المستعجلة والإنعاش والأمراض النسائية والصدرية وطب الأطفال وأمراض المفاصل وجراحة العظام.
ووفق الأمينة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية مارغاريت تشان فإنه “بفضل التضامن الطبي الكوبي ارتفعت المؤشرات الصحية الى مستويات كبيرة في مختلف شعوب العالم”.
وحسب أرقام رسمية نشرت في 2013، تنفق الحكومة الكوبية 10.6% من الناتج القومي على الصحة وتوفر 76 طبيبا لكل 10 آلاف نسمة.
وخلال الخمسين عاما الماضية، شهد التعليم الصحي في كوبا طفرة كبيرة، تمثلت في بناء 13 جامعة طبية كبيرة، وفق رؤية تهدف إلى: تلبية الاحتياجات المحلية للسكان، وإعداد أطباء قادرين على المنافسة في سوق العمل العالمية.
المصدر : وكالات,مواقع إلكترونية