ما الّذي نعرفه عن الأدب النرويجي اليوم؟ ما الّذي نعرفه من أعمال الكتّاب النرويجيين بشكلٍ عام، باستثناء مسرحيات “هنري إبسن”، رواية “كريستين لافرانسداتر” الضّخمة ل”سيغريد أوندست”، ورواية “الجوع” لصاحب نوبل “كنوت هامسون”، ومؤخّراً روايات “جوستان غاردر” الفلسفية وروايات “جو نيسبو” البوليسية، المترجم معظمها إلى العربية خلال السنوات القليلة الماضية؟ وما وضعية النشر والكتاب والقراءة وحقوق المؤلِّف في هذا البلد الصّغير من حيث السكّان، الغنيّ من حيث الموارد والاقتصاد والثقافة؟ وهل فعلاً يمكن اعتبار النرويج جنّة الكُتّاب في الأرض، أو البلد الأفضل في العالم بالنّسبة لمن يحلم بالعيش من مهنة الأدب وحده؟
بلد غنيّ بالأدب
في بداية التسعينيات، حينما نُشرت رواية جوستان غاردر “عالم صوفي” في النرويج، لم يتوقّع أحد أن تخترق هذه الرواية الفلسفية الحدود وتصل في وقت وجيز إلى دائرة الكتب الأكثر مبيعاً على مستوى العالم، حتى وصلت مبيعاتها إلى 40 مليون نسخة. وقبل هذا النجاح، لم يكن للأدب النرويجي حضور يذكر في المكتبات خارج النرويج إلّا في حالات نادرة واستثنائية جداً، لأنّه حضور يتناسب مع حجم بلد تسكنه فقط خمسة ملايين نسمة، أي ما يعادل عدد المقيمين بإحدى المدن الأوروبية الكبرى، ويتحدّث لغة غير منتشرة كثيراً هي النرويجية. واليوم، بعد أزيد من ثلاثة عقود فقط، لم تعد النرويج تراهن فقط على بيع الكلاسيكيات أو الأدب البوليسي وروايات المغامرات، وإنما صارت تنشر أدباً شديد التنوّع خارج الحدود. ولا شك أنّ النجم الساطع لهذا الأدب اليوم هو كناوسغارد. ولكنه ليس الوحيد، هناك أيضاً داغ سولستاد، الحائز على جائزة الأكاديمية السويدية، أو “جائزة نوبل الصغرى” كما تُسمّى في بلدان الشمال، وكجيل أسكيلدسن، أفضل كتّاب القصة القصيرة، وهم جميعاً صاروا معروفين ومقروئين عالمياً، كما هو شأن بير بيترسن، لين أولمان، جو نيسبو، والمسرحي جون فوس، ماجا لوندي، المشهورة بكتابها “حكاية النحل”، أو ماريا بار، وهي بمثابة “أستريد ليندغرن” جديدة.
هل تحلم بالعيش من الأدب وحده؟
يمكن اعتبار النرويج البلد الأمثل لمن يريد أن يكسب قوت يومه من الكتابة الأدبية. ففي هذا البلد، بإمكان الكاتب الناشئ مثلاً أن يحلم بالعيش من الأدب وحده، لأنّ الدولة توفّر له منحة على شكل راتب يصل إلى حوالي 25 ألف يورو سنوياً، وهذا السخاء في دعم الكتّاب الجدد لا يمكن أن نجده في بلد آخر، حيث يعيش أغلب الكتّاب على تحويلات مبيعاتهم من الكتب، وهي تحويلات تُقطّر لهم بحساب من فترة تطول أو تقصر حسب الناشر ووضعية سوق الكتاب. ومن جهة أخرى، حتى بالنسبة لكاتب مكرّس، كما هو حال كارل أوف كناوسغارد، مؤلف سلسلة “كفاحي”، بإمكانه هو أيضاً الاستفادة من منحة قد تصل إلى 50 في المئة، وهي منحة حكومية من خلال برنامج Norla (دعم الأدب النرويجي في الخارج) يساعد في ترجمة الكتب المؤلفة باللغة النرويجية: فمثلاً، في سنة 2016 صدر 499 كتابا نرويجيا في 46 لغة، من بينها الجزء الرابع من كتاب ملك التخييل الذاتي، كارل أوف كنوسغارد، باللغتين الأسبانية والكاتالينة.
أما بالنسبة لقطاع النشر، فهو أقلّ عرضة للمخاطر مقارنة بدول أخرى. لقد تبنّت الدولة النرويجية برنامجاً فريداً لاقتناء الكتب وتوزيعها على المكتبات العامة، وهي مثلاً البلد الوحيد في العالم الّذي يشتري كلّ عام 773 نسخة من أيّ كتاب روائي ( في حدود 85 في المئة من مجموع الروايات) و1550 نسخة من كلّ كتاب موجّه للأطفال والشباب، علماً أن متوسّط توزيع هذه الكتب ينحصر في 2500 نسخة. كما أن الكتب الورقية معفاة من الضرائب – وهذه حالة نادرة قلّما نجدها في أروبا باستثناء بريطانيا وأوكرانيا وجورجيا- مع تطبيق نظام ثابت للأسعار ، كما هو الحال في إسبانيا وفرنسا وألمانيا، الّذي يمنع تخفيض سعر الكتب إلّا في شهر مايو من العام التالي لنشرها، فضلاً عن الإدارة الفعّالة لحقوق المؤلّف عن طريق الاستفادة من مداخيل إعارة الكتب في المكتبات والنسخ الخاصة بمؤسسات التعليم، بحيث لم يعد لقرصنة الكتب مجال لأنّ الجميع يحصل على ما يريد من كتب وتبقّى حقوق المؤلف محفوظة في جميع الحالات.
إنّ عدم فرض ضرائب على الكتب في النرويج ينسحب أيضاً على الثقافة بشكل عام. فالكاتب المتقاعد لديه الحق في الحصول على مداخيل كتبه من دون أن يفقد الحق في الاستفادة من المعاش المخصّص له، وهذا خلافاً لما هو عليه الحال في بلدان مثل إسبانيا، إيرلندا أو مالطا. لكن الأهمّ من كل هذا، وهو ما يفسّر كل ما سبق، ثمّة في النرويج احترام كبير للثقافة والإبداع. وهذا التبجيل للثقافة يمكن ترجمته اقتصادياً في واحد من أغنى بلدان العالم (خصّصت النرويج 1.440 مليون يورو للثقافة سنة 2017، و 86.6 مليون لقطاع الكتاب)، وهو بلد لم يتأثّر إلّا قليلاً بالأزمة الاقتصادية الأخيرة الّتي لم تنعكس على المجال الثقافي والإبداع الوطني وانتشاره في العالم. كما لا يمكن إغفال أنّ النرويج لديها أحد أعلى معدّلات القراءة في العالم (47 كتاب مقروء للفرد الواحد خلال العام)، وأدبها في تطوّر مستمرّ خلال العقود الأخيرة بالنسبة لكل الأنواع الأدبية.
الشعر النرويجي
الشّعر في النرويج، على سبيل المثال، تطوّر وانحاز إلى الأسلوب الحداثي خلال السنوات الّتي تلت الحرب العظمى. وعلى الرغم من أنّ عدداً كبيراً نسبياً من الكتب الشعرية تصدر كل عام في النرويج، إلّا أنّ قلّة منها فقط تصل إلى الجمهور العريض. ويمكن أن نجد استثناء لدى الأساتذة القدامى مثل أولاف ه. هوج (1908-1994) بالنسبة لكتابه “قصائد مجتمعة”، أو الشاعر رولف جاكوبسون (1907-1994)، وهو من الحداثيين النرويجيين الأوائل في فترة ما بين الحربين، بالنسبة لمجموعته الشعرية “ناتابانت” (1985)، فهذه القصائد المكتوبة خلال حياة الشاعرين ما يزال لهما حتّى الآن تأثير كبير على القراء من كلّ الأجيال، ذلك لأنّ هوج وجاكبسون قد نجحا في أن يكونا بمثابة “نبيّين” حيّين في بلادهما، ومن النّادر أن يبلغ شاعر مثل هذه المرتبة. كما يمكن الإشارة إلى الشاعر بال-هليج هوجن الّذي ينتمي إلى جيل شاب يحظى شعره بقراءة وتقدير كبيرين.، والشاعر جان إريك فولد الذي يمتاز شعره بالغنائية والالتزام السياسيين وقد عرف انتشاراً واسعاً بين الجمهور خلال سنوات الثمانينيات، فضلاً عن الشاعر لارس سابي-كريستنسن، خصوصاً من خلال مجموعاتها الشعرية وكتاب المختارات “ما الذي حلّ بكلّ هؤلاء الفتيان؟” الصادر عام 1991. هؤلاء الشعراء الثلاثة، وهم في الأصل فنانو وسائط إعلام متعدّدة، ساهموا في بروز تيّار جديد متحمّس غيّر الكثير من علاقة الجمهور النرويجي بالشعر، الّذي صار يحضر بكثافة لقراءات هؤلاء الشعراء.
أدب الجريمة
خلال الثمانينيات، صار الأدب النرويجي المتعلّق بالجريمة مقبولاً ضمن الحلقات الأدبية الأكثر تطلّباً ونوادي الكتب الجادّة. وفرض الكثير من الكتّاب الشباب أنفسهم على الساحة بتقديمهم أدباً بوليسياً متميّزاً عن “الروايات العادية”، ومن بين هؤلاء إنغفار أميورسن، لارس سابيي كريستنسن و روي جاكوبسون. وهناك أوجه تشابه واضحة بين روايات هؤلاء الكتّاب وبين العديد من كتب جان كيارستاد الّتي تجري أحداثها في أوسلو، مثل “هومو فاسوس” (1984) وراند (1990). والكاتبة الوحيدة الّتي التحقت بهذه الكوكبة هي كيم سماغي، حيث كانت بدايتها عام 1993 مع رواية ” ناديك” التي حملت عن وعي وجهة نظر نسوية من حيث المضمون والأسلوب.
لقد قيل مرّة إنّه يمكن تفسير ظاهرة روايات الجريمة النرويجية باعتبارها “أدباً محلّياً حديثاً”، لأنّ أحداثها تتركّز إلى حدّ كبير في المدن الكبرى، مثل أوسلو، بيرغن أو تروندهايم. ويساعد اللّون المحلي على أن يطبع هذا النوع الأدبي “المستورد” بطابع نرويجي خالص. وقد وفّرت الظروف الاقتصادية الحالية، منذ الثمانينيات، منجماً غنياً بالحبكات الدرامية ذات المصداقية والإثارة الكبيرتين. ومع ذلك، من الواضح أنّ معظم الكتّاب يحاولون تضمين رواياتهم “محتوى أدبياً” أكثر طموحاً من السياق المقتبس. ومنذ التسعينيات إلى اليوم، تعزّز هذا الاتجاه، وحظي الأدب المتعلق بالجريمة باهتمام أكبر، خصوصاً إذا علمنا أنّ الكتاب الجادّين يستعملون هذا النوع الأدبي كأداة لإيصال رسائلهم فقط، مثل تورغير سشيرفن في كتابه الشهير ” انحراف نحو فينوس” (1994).
فانتازيا ووعي باللّغة
لقد تبلور اتّجاهان واضحان في الأدب النرويجي المعاصر منذ الثمانينيات إلى اليوم: الأول يعتني بالسرد الخيالي في جوانبه الأكثر شساعة وتنوعاً، والثاني اتجاه أكثر اهتماماً و”وعياً باللغة”. بالنسبة لمن يمثّل اتجاه السرد الخيالي، يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى الكاتب أغي برينغفارد وماري أوسمونسن، ويمكن إضافة آخرين مثل المخضرم أريلد نيكويست أو واحداً من الكتّاب الذين تكرّسوا خلال الثمانينيات مثل راغنار هوفلاند. وهناك كتاباً آخرين اختاروا اتجاهات أخرى في قطيعتهم مع الواقعية، مثل جان كيارستاد الّذي بدأ مسيرته بمجموعة قصصية بعنوان “الكوكب يدور في صمت” (1979)، وجون فوس في “رصاص وماء” (1992)، ومن الشباب فيغديس هجورث في “انفتاح فرنسي” (1992)، إضافة إلى تور أوفن، كارين مور، أويفيند هانز وغرو داهل.
يمكن القول، إجمالاً، إنّ الأدب النرويجي اليوم ما يزال يتحرّك في منطقة يتجاذبها تيّاران رئيسيان: ينتمي الأوّل إلى نوع من النّظام الإبداعي (الواقعية) والثاني إلى نوع من الفوضى الخلّاقة (الفانتازيا)، وهذا التجاذب لا يمكن أن يُختزل فقط في اختيار النوع الأدبي الّذي يبدع فيه جميع الكتّاب من مختلف الأجيال والمشارب، وإنّما هو تجاذب يتعلّق بمسألة وجودية بالأساس، تكمن في الطريقة الّتي يفهم بها الكتّاب النرويجيون العالم حالياً، وبالطريقة التي يقاربون بها وظيفة الأدب لكي يصير أكثر قدرة على القبض على القضايا الأساسية التي تعتمل بداخل المجتمع النرويجي اليوم، أي أن ينتجوا أدباً نرويجياً متشبّعاً بخصوصياته المحلّية المتميّزة ومنفتحاً على العالم بأفكارٍ جديدة في نفس الوقت.